كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وبينما نحن نسمع حكاية عن الماضي ووعدًا عن المستقبل، إذا المشهد ينقلب، وإذا المستقبل ماض قد وقع، وإذا فرعون قد قاد قومه إلى النار وانتهى: {فأوردهم النار}!!
أوردهم كما يورد الراعي قطيع الغنم. ألم يكونوا قطيعًا يسير بدون تفكير؟ ألم يتنازلوا عن أخص خصائص الآدمية وهي حرية الإرادة والاختيار؟ فأوردهم النار. ويا بئساه من ورد لا يروي غلة، ولا يشفي صدى، إنما يشوي البطون والقلوب: {وبئس الورد المورود}.
وإذا ذلك كله. قيادة فرعون لهم، وإيرادهم موردهم.. إذا ذلك كله حكاية تروى، ويُعلق عليها: {وأُتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة}..
ويُسخر منها ويُتهكم عليها: {بئس الرفد المرفود}..
فهذه النار هي الرفد والعطاء والمنة التي رفد بها فرعون قومه!!! ألم يعد السحرة عطاء جزيلًا ورفدًا مرفودًا.. فها هو ذا رفده لمن اتبعه.. النار.. وبئس الورد المورود. وبئس الرفد المرفود!
وذلك من بدائع التعبير والتصوير في هذا الكتاب العجيب..
{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100)}
هذه خاتمة السورة.
تشتمل على تعليقات وتعقيبات متنوعة، مبنية على ما سبق في سياق السورة. من المقدمة ومن القصص. وهذه التعليقات والتعقيبات شديدة الاتصال بما سبق من سياق السورة، متكاملة معه في أداء أهدافها كذلك.
والتعقيب الأول في هذا الدرس تعقيب مباشر على القصص: {ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد}..
والتعقيب الثاني يتخذ مما نزل بالقرى من عذاب موحيًا بالخوف من عذاب الآخرة الذي يعرض في مشهد شاخص من مشاهد يوم القيامة: {إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود وما نؤخره إلا لأجل معدود يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ}..
يليه تعقيب آخر مستمد من عاقبة القرى ومن مشهد القيامة لتقرير أن المشركين الذين يواجههم محمد صلى الله عليه وسلم شأنهم شأن من قبلهم في الحالين. وإذا كان عذاب الاستئصال لا يقع عليهم في الأرض، فذلك لكلمة سبقت من ربك إلى أجل كما أجل العذاب لقوم موسى مع اختلافهم فيما جاءهم من كتاب. ولكن هؤلاء وهؤلاء سيوفون أعمالهم على وجه التأكيد. فاستقم أيها الرسول على طريقتك انت ومن تاب معك، ولا تركنوا إلى الذين ظلموا وأشركوا، وأقم الصلاة واصبر، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين: {فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب وإن كلًا لمّا ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين}..
ثم عودة إلى القرون الخالية التي لم يكن فيها إلا قليل من الذين ينهون عن الفساد في الأرض.
أما الكثرة فكانت ماضية فيما هي فيه، فاستحقت الهلاك. وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون: {فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلًا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون}..
وكشف عن سنة الله في كون الناس مختلفين في مناهجهم واتجاهاتهم. ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة. ولكن إرادته اقتضت إعطاء البشر قدرًا من الاختيار: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين}.
وفي النهاية يسجل السياق غرضًا من أغراض هذا القصص هو تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤمر الرسول أن يلقي للمشركين كلمته الأخيرة، ويكلهم إلى ما ينتظرهم من غيب الله. وأن يعبد الله ويتوكل عليه، ويدع له أخذ الناس بما يعملون: {وكلًا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون}.
{ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد}..
ومصارع القوم معروضة، ومشاهدهم تزحم النفس والخيال؛ منهم الغارقون في لجة الطوفان الغامر، ومنهم المأخوذون بالعاصفة المدمرة، ومنهم من أخذته الصيحة، ومنهم من خسفت به وبداره الأرض، ومنهم من يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار. وما حل بهم من قبل في الدنيا يخايل للأنظار.. في هذا الموضع وقد بلغ السياق من القلوب والمشاعر أعماقها بتلك المصارع والمشاهد.. هنا يأتي هذا التعقيب: {ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد}..
{ذلك من أنباء القرى نقصه عليك}.. فما كان لك به من علم، إنما هو الوحي ينبئك بهذا الغيب المطمور. وذلك بعض أغراض القصص في القرآن.
{منها قائم}.. لا تزال آثاره تشهد بما بلغ أهله من القوة والعمران، كبقايا عاد في الأحقاف وبقايا ثمود في الحجر. ومنها: {حصيد} كالزرع المحصود. اجتث من فوق الأرض وتعرى وجهها منه، كما حل بقوم نوح أو قوم لوط.
وما الأقوام؟ وما العمران؟.. إن هي إلا حقول من الأناسي كحقول النبات. غرس منها يزكو وغرس منها خبيث! غرس منها ينمو وغرس منها يموت!
{وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم}..فهم قد عطلوا مداركهم، وتولوا عن الهدى، وكذبوا بالآيات، واستهزأوا بالوعيد، فصاروا إلى ما صاروا إليه ظالمين لأنفسهم لا مظلومين.
{فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب}..
وهذا غرض آخر من أغراض هذا القصص. فقد افتتحت السورة بإنذار الذين يدينون لغير الله سبحانه؛ وتكرر الإنذار مع كل رسول؛ وقيل لهم: إن هذه الأرباب المفتراة لا تعصم من الله.. فها هي ذي العاقبة تصدق النذر. فلا تغني عنهم آلهتهم شيئًا، ولا تدفع عنهم العذاب لما جاء أمر ربك، بل ما زادهم هؤلاء الآلهة إلا خسارة ودمارًا. (ولفظ تتبيب أقوى ببنائه اللفظي وجرسه المشدد) ذلك أنهم اعتمدوا عليهم، فزادهم استهتارًا وتكذيبًا. فزادهم الله نكالًا وتدميرًا. فهذا معنى: {ما زادوهم} فهم لا يملكون لهم ضرًا كما أنهم لا يملكون لهم نفعًا. ولكن بسببهم كانت الخسارة المضاعفة والتدمير المضاعف والنكال الشديد..
{وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة}... كذلك الذي قصصناه عليك، وبمثل هذا الدمار والنكال يأخذ ربك القرى حين يأخذها وهي ظالمة.. ظالمة: مشركة حين تدين لغير الله بالربوبية، وظالمة لنفسها بالشرك والفساد في الأرض والإعراض عن دعوة التوحيد والصلاح. وقد ساد فيها الظلم وسيطر الظالمون.
{إن أخذه أليم شديد}.. بعد الإمهال والمتاع والابتلاء، وبعد الإعذار بالرسل والبينات، وبعد أن يسود الظلم في الأمة ويسيطر الظالمون. ويتبين أن دعاة المصلحين قلة منعزلة لا تأثير لها في حياة الجماعة الظالمة السادرة في الظلال.. ثم.. بعد أن تفاصل العصبة المؤمنة قومها السادرين في الظلال؛ وتعتبر نفسها أمة وحدها لها دينها ولها ربها ولها قيادتها المؤمنة ولها ولاؤها الخاص فيما بينها. وتعلن الأمة المشركة من قومها بهذا كله، وتدعها تلاقي مصيرها الذي يقدره الله لها. وفق سنته التي لا تتخلف على مدار الزمان.
ذلك الأخذ الأليم الشديد في الدنيا علامة على عذاب الآخرة، يراها من يخافون عذاب الآخرة، أي الذين تفتحت بصائرهم ليدركوا أن الذي يأخذ القرى بظلمها في هذه الحياة سيأخذها بذنوبها في الآخرة، فيخافوا هذا العذاب.. وهنا يعبر السياق بالقلب البشري من مشاهد الأرض إلى مشاهد القيامة على طريقة القرآن في وصل الرحلتين بلا فاصل في السياق: {إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود وما نؤخره إلا لأجل معدود يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ}..
{إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة}..ففي ذلك الأخذ الأليم الشديد مشابه من عذاب الآخرة، تذكر بهذا اليوم وتخيف.. وإن كان لا يراها إلا الذين يخافون الآخرة فتتفتح بصائرهم بهذه التقوى التي تجلو البصائر والقلوب.. والذين لا يخافون الآخرة تظل قلوبهم صماء لا تتفتح للآيات، ولا تحس بحكمة الخلق والإعادة، ولا ترى إلا واقعها القريب في هذه الدنيا، وحتى العبر التي تمر في هذه الحياة لا تثير فيها عظة ولا فهمًا.
ثم يأخذ في وصف ذلك اليوم.: {ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود}..
وهنا يرتسم مشهد التجميع يشمل الخلق جميعًا، على غير إرادة منهم، إنما هو سوق الجميع سوقًا إلى ذلك المعرض المشهود، والكل يحضر والكل ينتظر ما سوف يكون..
{يوم يأت لا تَكلم نفس إلا بإذنه}..
فالصمت الهائل يغشى الجميع، والرهبة الشاملة تخيم على المشهد ومن فيه. والكلام بإذن لا يجرؤ أحد على طلبه، ولكن يؤذن لمن شاء الله فيخرج من صمته بإذنه.. ثم تبدأ عملية الفرز والتوزيع: {فمنهم شقي وسعيد}..
ومن خلال التعبير نشهد: {الذين شقوا} نشهدهم في النار مكروبي الأنفاس: {لهم فيها زفير وشهيق} من الحر والكتمة والضيق. ونشهد: {الذين سعدوا} نشهدهم في الجنة لهم فيها عطاء دائم غير مقطوع ولا ممنوع.
هؤلاء وأولئك خالدون حيث هم: {ما دامت السماوات والأرض}. وهو تعبير يلقي في الذهن صفة الدوام والاستمرار. وللتعبيرات ظلال. وظل هذا التعبير هنا هو المقصود.
وقد علق السياق هذا الاستمرار بمشيئة الله في كلتا الحالتين. وكل قرار وكل سنة معلقة بمشيئة الله في النهاية. فمشيئة الله هي التي اقتضت السنة وليست مقيدة بها ولا محصورة فيها. إنما هي طليقة تبدل هذه السنة حين يشاء الله: {إن ربك فعال لما يريد}..
وزاد السياق في حالة الذين سعدوا ما يطمئنهم إلى أن مشيئة الله اقتضت أن يكون عطاؤه لهم غير مقطوع، حتى على فرض تبديل إقامتهم في الجنة. وهو مطلق فرض يذكر لتقرير حرية المشيئة بعدما يوهم التقييد.
بعد هذا الاستطراد إلى المصير في الآخرة، بمناسبة عرض مصائر الأقوام في الدنيا، والمشابه بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، وتصوير ما ينتظر المكذبين هنا أو هناك، أو هنا ثم هناك.. يعود السياق بما يستفاد من القصص ومن المشاهد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والقلة المؤمنة معه في مكة تسرية وتثبيتًا؛ وإلى المكذبين من قومه بيانًا وتحذيرًا. فليس هناك شك في أن القوم يعبدون ما كان آباؤهم يعبدون- شأنهم شأن أصحاب ذلك القصص وأصحاب تلك المصائر ونصيبهم الذي يستحقونه سيوفونه. فإن كان قد أخر عنهم فقد أخر عذاب الاستئصال عن قوم موسى بعد اختلافهم في دينهم لأمر قد شاءه الله في إنظارهم.
ولكن قوم موسى وقوم محمد على السواء سيوفون ما يستحقون، بعد الأجل، وفي الموعد المحدود. ولم يؤخر عنهم العذاب لأنهم على الحق. فهم على الباطل الذي كان عليه آباؤهم بكل تأكيد: {فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير}..
لا يتسرب إلى نفسك شك في فساد عبادة هؤلاء. والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والتحذير لقومه. وهذا الأسلوب أفعل في النفس أحيانًا، لأنه يوحي بأنها قضية موضوعية يبينها الله لرسوله، وليست جدالًا مع أحد، ولا خطابًا للمتلبسين بها، إهمالًا لهم وقلة انشغال بهم! وعندئذٍ يكون لتلك الحقيقة الخالصة المجردة أثرها في اهتمامهم أكثر مما لو خوطبوا بها خطابًا مباشرًا..
{فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل}..
ومصيرهم إذن كمصيرهم.. العذاب.. ولكنه يلفه كذلك في التعبير تمشيًا مع الأسلوب: {وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص}..
ومعروف نصيبهم هذا من نصيب القوم قبلهم. وقد رأينا منه نماذج ومشاهد!
وقد لا يصيبهم عذاب الاستئصال في الدنيا كما لم يصب قوم موسى: {ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه}..
وتفرقت كلمتهم واعتقاداتهم وعباداتهم، ولكن كلمة سبقت من الله أن يكون حسابهم الكامل يوم القيامة: {ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم}..
ولحكمة ما سبقت هذه الكلمة، ولم يحل عذاب الاستئصال بهم، لأن لهم كتابًا، والذين لهم كتاب من اتباع الرسل كلهم مؤجلون إلى يوم القيامة، لأن الكتاب دليل هداية باق، تستطيع الأجيال أن تتدبره كالجيل الذي أنزل فيه. والأمر ليس كذلك في الخوارق المادية التي لا يشهدها إلا جيل، فإما أن يؤمن بها وإما أن لا يؤمن فيأخذه العذاب.. والتوراة والإنجيل كتابان متكاملان يظلان معروضين للأجيال حتى يجيء الكتاب الأخير، مصدقًا لما بين يديه من التوراة والإنجيل فيصبح هو الكتاب الأخير للناس جميعًا يدعى إليه الناس جميعًا، ويحاسب على أساسه الناس جميعًا، بما فيهم أهل التوراة وأهل الإنجيل: {وإنهم}.. أي قوم موسى.: {لفي شك منه مريب}.. من كتاب موسى، لأنه لم يكتب إلا بعد أجيال، وتفرقت فيه الروايات واضطربت، فلا يقين فيه لمتبعيه.
وإذا كان العذاب قد أجل.. فإن الكل سيوفون أعمالهم خيرها وشرها. سيوفيهم بها العليم الخبير بها ولن تضيع: {وإن كلًا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير} وفي التعبير توكيدات منوعة حتى لا يشك أحد في الجزاء والوفاء من جراء الإنظار والتأجيل.
وحتى لا يشك أحد في أن ما عليه القوم هو الباطل الذي لا شك في بطلانه، وأنه الشرك الذي زاوله من قبل كل المشركين..
ولقد كان لهذه التوكيدات ما يقتضيها من واقع الحركة في تلك الفترة. فقد وقف المشركون وقفتهم العنيدة منها ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم والقلة المؤمنة معه، وتجمدت الدعوة على وجه التقريب. بينما عذاب الله الموعود مؤجل لم يقع بعد. والأذى ينزل بالعصبة المؤمنة ويمضي أعداؤها ناجين!... إنها فترة تهتز فيها بعض القلوب. وحتى القلوب الثابتة تنالها الوحشة، وتحتاج إلى مثل هذه التسرية وإلى مثل هذا التثبيت.
وتثبيت القلوب المؤمنة لا يكون بشيء كما يكون بتوكيد أن أعداءها هم أعداء الله، وأنهم على الباطل الذي لا شك فيه! كذلك لا يكون تثبيت القلوب المؤمنة بشيء كما يكون بجلاء حكمة الله في إمهال الظالمين، وإرجاء الطغاة إلى يوم معلوم، ينالون فيه جزاءهم ولا يفلتون!